فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين} إلى آخره شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة وضمير {كَانَ} للمتوفى المفهوم مما مر أي فأما إن كان المتوفى الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم.
{فَرَوْحٌ} أي فله روح على أنه مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه لأنه نكرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه روح أي استراحة، والفاء واقعة في جواب أما، قال بعض الأجلة: تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح إلخ إن كان من المقربين فحذف مهما يكن من شيء، وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء أما، فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه: {إِن كَانَ مِنَ المقربين} [الواقعة: 88] لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول، والفاء في {فَرَوْحٌ} وأخويه جواب أما دون {إن}، وقال أبو البقاء: جواب أما {فَرَوْحٌ}، وأما {إن} فاستغنى بجواب أما عن جوابها لأنه يحذف كثيرًا، وفي (البحر) أنه إذا اجتمع شرطان فالجواب للسابق منهما، وجواب الثاني محذوف، فالجواب هاهنا لأما، وهذا مذهب سيبويه.
وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب {إن} وجواب أما محذوف، وله قول آخر موافق لمذهب سيبويه.
وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معًا، وقد أبطلنا المذهبين في شرح التسهيل انتهى، والمشهور أنه لابد من لصوق الاسم لأما وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية، والذاهبون إلى الأول قالوا: هي بتقدير فأما المتوفى {إِن كَانَ} وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا اطراد الحكم، ثم إن كون أما قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا يطرد في نحو أما قريشًا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشًا فأنا أفضلها، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية.
وأخرج الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود والنسائي، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وآخرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {فَرَوْحٌ} بضم الراء، وبه قرأ ابن عباس، وقتادة، ونوح القارئ، والضحاك، والأشهب، وشعيب، وسليمان التيمي، والربيع بن خيثم، ومحمد بن علي، وأبو عمران الجوني، والكلبي، وفياض، وعبيد، وعبد الوارث عن أبي عمرو، ويعقوب بن حسان، وزيد، ورويس عنه، والحسن وقال: {الروح} الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، أو سبب لحياته الدائمة فإطلاقه عليها من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وروي هذا عن قتادة أيضًا، وقال ابن جني: معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى الروح فكأنه قيل: فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول: الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش، وفسر بعضهم الروح بالفتح الرحمة أيضًا كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] وقيل: هو بالضم البقاء {وَرَيْحَانٌ} أي ورزق.
كما روي عن ابن عباس ومجاهد، والضحاك، وفي رواية أخرى عن الضحاك أنه الاستراحة، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: هو هذا الريحان أي المعروف.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة؛ ثم قرأ {فَأَمَّا إِن كَانَ} [الواقعة: 88] إلخ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة فيشمهما ثم يقبض {وجنات نَعِيمٍ} أي ذات تنعم فالإضافة لامية أولادنى ملابسة، وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه أن يكونوا أصحاب نعيم.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الربيع بن خيثم قال في قوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}: هذا له عند الموت، وفي قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ} تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا، وعن بعض السلف ما يقتضي أن يكون الكل في الآخرة.
{وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين} عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين، وقوله تعالى: {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} قيل: هو على تقدير القول أي فيقال لذلك المتوفى منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سلاما سلاما} [الواقعة: 25، 26] فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع تقدير القول، و{مِنْ} للابتداء كما تقول سلام من فلان على فلان وسلام لفلان منه.
وقال الطبري: معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين، فمن أصحاب اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام بتقدير القول أيضًا، وكأن هذا التفسير مأخوذ من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك: تأتيه الملائكة من قبل الله تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين، والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت، وأنه على المعنى السابق في الجنة.
وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم، وهذا كما تقول لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ البال من ولدك فإنه في راحة ودعة، والخطاب لمن يصلح له أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وعليه قيل: يجوز أن يكون ذلك تسلية له عليه الصلاة والسلام على معنى أنهم غير محتاجين إلى شفاعة وغيرها، ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح الآيات أنهم كفار {مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وكونهم من أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسمًا على حدة قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل، وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف.
{وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون} [الواقعة: 51] ذمًّا لهم بذلك وإشعارًا بسبب ما ابتلوا به من العذاب، ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب هنا على عكس ما تقدم، ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بأن يشافه بكل جملة منه من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة والسلام المشعر بسبب الابتلاء بالعذاب كرامة له صلى الله عليه وسلم وتنويهًا بعلو شأنه، ولما كان الكلام السابق داخلًا في حيز القول المأمور عليه الصلاة والسلام بأن يشافه به أولئك الكفرة لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذٍ من باب مادح نفسه يقرئك السلام، ويجوز أن يقال أيضًا إن الكلام في حال الكافر المحتضر والتكذيب لكونه مقابل التصديق لا يكون إلا بالقلب وهو لم يتعطل منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدم هنا، ويرشد إلى هذا ما قالوه في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء والإيمان بالإماتة.
وقال الإمام في ذلك: إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل الله تعالى ولم يصلوا إليه ثم كذبوا رسله، {وَقالواْ أَءذَا مِتْنَا} إلخ فكذبوا بالحشر فقال تعالى: {أَيُّهَا الضالون} الذين أشركتم المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون، وأما هنا فقال سبحانه لهم: أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هناك مع الكفار فقال سبحانه: أيها الذين أشركتم أولًا وكذبتم ثانيًا، والخطاب هنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يبين له عليه الصلاة والسلام حال الأزواج الثلاثة كما يدل عليه.
فسلام لك فقال سبحانه: المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلامة، وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى الله عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى.
وعليك بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال، وقوله تعالى: {فَنُزُلٌ} بتقدير فله نزل أو فجزاؤه نزل كائن {مِنْ حَمِيمٍ} قيل: يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل.
{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال في النار، وقيل: إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة، وقيل: هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخرج الكافر حتى يشرب كأسًا من حميم.
وقرأ أحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو {وَتَصْلِيَةُ} بالجر عطفًا على {حَمِيمٍ} [الواقعة: 93].
{إِنَّ هَذَا} أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {لَهُوَ حَقُّ اليقين} اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقًا والإضافة بمعنى اللام والمعنى لهو عين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم، وقال بعض آخر: إنها بيانية على معنى من، وقدر بعضهم هنا موصوفًا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه، وفي (البحر) قيل: إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر، والفاء في قوله تعالى: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} لترتيب التسبيح أو الأمر به، فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالًا تعالى عن ذلك علوا كبيرًا.
وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح باسم ربك العظيم قال: اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم».
ومما قاله السادة أرباب الإشارة: متعلقًا ببعض هذه السورة الكريمة أن {الواقعة} اسم لقيامة الروح كما أن {الازفة} اسم لقيامة الخفي، و{الحاقة} اسم لقيامة السر، و{الساعة} اسم لقيامة القلب، وقالوا: إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورًا وتخفضه طورًا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجىء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى، وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوي قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرًا منورًا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح عينيه بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدًا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك فليس لوقعتها كاذبة بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ثم أنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس، وقالوا في مواقع النجوم: إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية، وقيل: في قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات وهو الحدث الأصغر ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات وهو الحدث الأكبر أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة، وقيل: أيضًا يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدنى حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات.